قبل 21 عامًا، حين كنت طالبة في السنة الثالثة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قصدتُ مسرح الهناجر لمشاهدة مسرحية ضمن تكليفات مادة النقد الفني التي درّسها لنا الدكتور أسامة أبو طالب، أستاذ الدراما والنقد بأكاديمية الفنون. كنا وقتها بعد غزو العراق بعام واحد. وما إن جلستُ في مقعدي حتى دخل علينا الممثلون فجأة في ثياب مشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، يتحدثون بعربية مكسرة، متجولين بين صفوف المشاهدين يتحرشون بنا بهياكل بنادقهم لتفتيشهم وترويعهم وتهيئة الأجواء لبدء العرض الذي يتصدى للاحتلال الأمريكي وينادي بالمقاومة المسلحة.
كانت «اللعب في الدماغ» مسرحية سياسية بامتياز. ربما كانت من أوائل الأعمال الفنية ذات الطابع السياسي التي أتعرض لها وراقني الأمر. لم تقتصر على مهاجمة الاحتلال ودحض مفاهيمه وأفكاره والدفاع عن الثوابت الوطنية، بل أيضًا سخرت من الإعلام العربي الموجه، وهاجمت الفساد والفقر، وحظيت بحرية كبيرة آنذاك في ظل تصاعد موجة العداء للاحتلال الأمريكي لبغداد، حتى امتد عرضها لفترة طويلة تزيد عما خُطط له بعد انتشار لافتات كامل العدد.
أحد جنود المارينز في العرض المسرحي كان يُدعى الجنرال فوكس، وهو أحد الأبطال الرئيسيين. أدى دوره الفنان البارع خالد الصاوي الذي اكتشفتُ أيضًا أنه كتب وأخرج المسرحية. أما فرقة الممثلين فهي فرقة «الحركة» التي كوّنها الصاوي عام 1989 لتكون متنفسهم الفني الحر وقدّم بها خمس مسرحيات وتجربتين فيلميتين.
قد لا يعرف الكثيرون عن خالد الصاوي سوى أنه فنان موهوب له أدوار كالعلامات تبقى في الذاكرة في أعمال سينمائية بارزة مثل أفلام «عمارة يعقوبيان» و«كده رضا» و«كباريه» و«الفرح»، بالإضافة إلى أعمال تليفزيونية مثل «تفاحة آدم» و«أهل كايرو» وغيرها. ربما يتذكر البعض له مواقف سياسية قبل ثورة يناير أو بعدها، واشتراكه في حركة كفاية المطالبة بالتغيير، لكن القليل يعرفه ككاتب ومخرج مسرحي له عدة كتابات، بعضها عرف طريقه إلى المسرح وسجل نجاحًا ملحوظًا.
مثلما كان الصاوي جوكر الفن يؤدي أدوارًا مختلفة أمام الكاميرا بظهوره المتنوع أو خلفها بنفس القدر من المهارة، تاركًا بصمة في قلوب وعقول مشاهديه، فإننا يبدو على موعد مع حُلّة جديدة سنعرفه بها في الفترة القادمة، وهو يخطو خطوات ثابتة في مجال الأدب.
هذا الشهر، يطل الصاوي للعام الثاني على التوالي في معرض القاهرة الدولي للكتاب بصفة القاص والمسرحي والشاعر والروائي، لا الفنان، لإطلاق روايته الجديدة «أطلال» الصادرة عن دار فاصلة للنشر التي لا نعرف عنها أي خلفيات سوى أنها لخالد الصاوي. بهذا النص، تكتمل سُباعية أعمال الصاوي المتنوعة بين الرواية والقصة والمسرحية والقصيدة والفانتازيا التاريخية.
نعرف من تصريحات صحفية سابقة أن الصاوي ورث حب القراءة من والده الذي كان يقرأ كثيرًا للصحفي الراحل محمد حسنين هيكل. امتلك والده مكتبة كبيرة في المنزل، ومنها بدأ خالد قراءة أشعار بيرم التونسي والمتنبي في سن مبكرة، كما أحب القراءة للشاعر الفلسطيني محمود درويش والسوري نزار قباني. عشق الصاوي الكتابة كذلك وكانت مدخله إلى عالم الفن. أما المفاجأة فهي أن كافة الكتب السبعة المطروحة له حاليًا في المكتبات ليس من بينها أول كتاب نشره. والسبب أن أول كتاب نشره يرجع إلى قرابة خمسين عامًا، حين كان في الصف الثاني الثانوي. حرجه الشديد وقتها دفعه لإخفاء نشاطه عن أصدقائه حتى لا يتعرض للسخرية.
أولى كتابات الصاوي كانت المسرحية. بدأ التمثيل على المسرح الجامعي واشترك في تأسيس الجمعية المصرية لهواة المسرح. هو حاصل على ليسانس الحقوق ثم بكالوريوس الإخراج السينمائي من أكاديمية الفنون. عمل بالمحاماة لفترة قصيرة، ثم مساعدًا للإخراج، وبعدها مخرجًا تليفزيونيًا بقناة النيل الدولية وبعض القنوات المتخصصة.
ربما أقدم ما كتب كان مسرحيتي «الميلاد» و«المزاد» التي تدور حول صراعات المال باعتباره السيد الأوحد الحقيقي الذي يستعبد البشر أغنياءهم قبل فقرائهم. تلتْهما مسرحية «أوبريت الدرفيل» التي كتبها وأخرجها وفازت بجائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي في أوائل التسعينيات. المسرحية تنتمي إلى الفانتازيا التاريخية، وهي عبارة عن رحلة استثنائية شيقة عبر العصور منذ الفراعنة وحتى العصر الحاضر، مستعرضة تطور المجتمع المصري عبر العصور، وصراعات الخير والشر. عمل الصاوي كذلك كمخرج مسرحي في «المجانين»، كما عمل في إخراج مسلسل «أحلام العمر» وفي بعض الأفلام. وتظل «اللعب في الدماغ» أنجح وأشهر مسرحياته.
وفي القصة القصيرة، كتب الصاوي «يوميات خلود»، وهي أشبه بسيرة ذاتية قصصية قدّمها يوسف إدريس قائلًا: استمتعت بخالد الصاوي وهو بكل جرأة يقفز إلى مختلف موضوعات البشر من الهوامش إلى المجنون الذي يكنس حروف الكتب الميتة، وكنت وكأنما أعود أرى صباي وشبابي ومحاولاتي - بكل تهور - لخرق المستحيل. وختم بالقول: إني سعيد بتقديمه غاية ما تكون السعادة، ولست أدري إن كان سيكمل الطريق ويستمر في القفز العالي أم سيختار طريق الشعر، فهو في قصصه هنا شاعر. ولكن مهما كان اختياره، فلا بد أن نقر أن خالد الصاوي يمتلك كل مؤهلات الفنان الخالق، ولو أجاد استعمالها فسنجد أنفسنا في يوم قريب أمام فنان خالق خارق.
أما ديوانه «نبي بلا أتباع»، فهو أولى تجاربه الشعرية، ويضم 40 قصيدة من شعر التفعيلة تحكي عن نبي لا يجد أتباعًا، ويجاهد من أجل رسالته في زمن ساد فيه الشر حتى طغى على الخير. وكانت لديه مدونة ينشر عليها قصائد شعرية ثورية.
مع دخوله الأحدث إلى عالم الرواية الساحر عبر «أطلال» في غضون الأسبوع، سيبدأ فصل جديد في حياة خالد الصاوي الأدبية مع تناول روايته نقديًا، والتفاعل معها من القراء، واستضافته في حفلات التوقيع والمناقشات، وسماع الآراء المختلفة من إشادات ومآخذ حتى يُلحق بها روايات أخرى.
رهانٌ دومًا أثبت الصاوي نجاحه فيه وفي المغامرات التي خاضها فيما يحب من عمل. يبقى خالد الصاوي تجسيدًا حيًا لفكرة الجوكر الأدبي والفني، حامل الرسالة الفكرية العميقة التي يتحدى بها القوالب التقليدية، متنقلًا ببراعة بين العوالم، ومجسدًا الشخصيات بأبعادها الإنسانية العميقة، ليُفاجئ جمهوره دومًا بمحطته الجديدة.